مكافحة الفساد بين الشعبوية والفعالية

يغلب على الحملات التي تحمل عنوان مكافحة الفساد السعي لنيل التصفيق وإثارة الحماسة، وهذا ينتج تعميم اليأس مرتين، مرة لأنه يقوم على قاعدة شيطنة السياسة بعيون الناس عبر تعميم وصف كل من يتعاطى السياسة بالفاسد، من مثل تعميم مصطلح لا أساس علمياً له، هو الطبقة السياسية، وإبعاد الناس عن السياسة هو أكبر وصفة لتعميم الفساد وتجذّره، فابتعاد الناس عن السياسة يطلق أيدي الفاسدين ويترك لهم وحدهم فرص التحكم في موارد الدولة ووظائفها من دون مساءلة أو محاسبة، وانخراط الناس أكثر فأكثر في السياسة عبر الإنتخابات والأحزاب والإعلام والمساءلة والمحاسبة هو الذي ينشئ الآلة العملاقة التي تحتاج اليها المجتمعات لمكافحة الفساد وفقاً لشعار أطلقه الراحل العميد ريمون إده، "كل مواطن خفير". أما الطريق الثاني لتعميم اليأس بفعل الحملات الشعبوية فهو اكتشاف الناس أن هذه الحملات كانت مجرد فقاعات صابون سرعان ما تلاشت بلا نتائج، فهي إما سعي لكسب بعض النجومية، أو طريقة لتصفية الحسابات بين القوى السياسية، أو نثر للغبار الفضائحي للتعمية على مكامن الفساد الأشد خطورة، وفي الحصيلة تمر الأيام والشهور والسنوات بعائد سلبي ينتج الإحباط لدى الناس من جدوى مراهناتهم على حملات مكافحة الفساد.

في المقابل، يترتب على النهج المحافظ علمياً في مقاربة مسألة الفساد إحباط مشابه وتعميم لا يقل خطورة لليأس عبر جعل مكافحة الفساد أمراً مشروطاً بتعقيدات ومسارات وزمن، تشبه انتظار ساعة القيامة، كالقول ان لا فرص لمكافحة الفساد إلا ببناء دولة المؤسسات والقانون، وإنجاز استقلال مؤسسات الرقابة وحصانتها، واكتمال تحصين القضاء واستقلاليته، وكلها مطالبات صحيحة واستراتيجيات سليمة، لكن ربط كل إنجاز في مكافحة الفساد باكتمالها يخفي في كثير من الأحيان خبثاً يريد القول للناس إن حال البلد "فالج لا تعالج"، وان لا جدوى من الأمل ببلوغ ولو درجة مقبولة من الإنجاز في مسار تراكمي لا سقف له، لأنه سعي لبلوغ كمال نقترب منه ولا نناله كاملا، وهذا ما تقوله حال كل الدول التي تسجل أرقاماً عالية في الشفافية ومكافحة الفساد، ولا تزال تضع البرامج والخطط لبلوغ المزيد.

ما يحتاج اليه بلدنا لبنان هو الإنطلاق أولاً من اليقين أن مكافحة الفساد لم تعد مجرد رغبة أخلاقية بمكافحة آفة مرضية بشعة، ولا هي فقط سعي مرغوب لإصلاح منشود في بنية الدولة، فقد صارت في أوضاعنا الإقتصادية الصعبة، وإدارتنا المتهالكة، وسمعتنا السيئة، شرطاً وجودياً للبقاء، ولإثبات الأهلية على النيات المعلنة في إنقاذ الإقتصاد والبلد، واسترداد صدقية مفقودة أمام الشعب، بات غيابها سبباً رئيسياً للهجرة التي تنزف معها الكفاءات ويفقد الإقتصاد عبرها الخبرات، وهي ذات الصدقية التي يتسبب فقدانها بخسارة الفرص التي يتيحها الوضع الدولي لأشكال من التعاون والدعم التي يحتاج اليها لبنان، ولا تزال متاحة له بسبب تعقيد موقعه الجغرافي والإقليمي، على خطوط تماس مع مجموعة أزمات يخشى العالم أن يؤدي أي انهيار لبناني إلى توريد عائداتها السلبية نحو الخارج.

إذا أجمع القادة والسياسيون في لبنان على أن مكافحة الفساد باتت شرطاً وجودياً، فهذا يستدعي إجماعهم على إيجاد طريقة تجمع بين إدارة خلافاتهم ومنافساتهم وبين هذا الإجماع، كما يستدعي يقينهم أن عائد التغاضي عن الفساد أو توفير الحماية له صار عبئاً، ولم يعد مصدراً للربح السياسي والشعبي وحتى المالي في بلد يواجه خطر جفاف الموارد، بينما صار كل وقف للتدهور وعودة لتحقيق الأرباح مشروطاً بامتلاك شجاعة القول كفى لمسار اهتراء الدولة، التي تأسس العمل السياسي فيها على ربط الزعامة بالخدمات وكان الفساد يتعيّش وينمو على معادلتها هذه، وهي معادلة لم تعد تصلح لتخديم السياسة إلا بشد الأحزمة، ولا بات ممكناً كسب الناس فيها مجدداً، رغم قوة العصبيات والغرائز الطائفية والمذهبية، إلا بتشذيب فروعها النافرة والمؤذية، التي تستنزف الدولة معنوياً ومادياً، وفي المقابل إن إعادة ترشيق الدولة وأداء مؤسساتها بالتخلص من أورام الفساد الخبيثة، أو أبرزها وأشدها خطراً وتأثيراً ، وهذا وحده ما يمنح السياسيين مجدداً فرص تنشيط الإقتصاد الذي يعتاش عليه جمهورهم، وتوفير الخدمات التي يتلقاها مريدوهم، وهذا بات مستحيلاً في المستوى الذي بلغه لبنان من تراجع وتعثّر يلعب الفساد دوراً كبيراً فيهما.

من هذين اليقينين يجب أن ينطلق اللبنانيون لمقاربة هذه القضية الوجودية اليوم، ليتمكنوا من صياغة عناوين واقعية وراهنة وممكنة التحقيق، تنتمي لفكرة بناء دولة المؤسسات والقانون لكنها لا تنتظر اكتمالها لتبدأ الخطوة الأولى، والعناوين الواقعية والممكنة مدعوة لمعالجة أربعة محاور عاجلة ترتبط بها العناوين الأشد حضوراً في ملفات الفساد في الداخل والخارج.

لقد آن الأوان للخلاص من معادلة نسمع عن الفساد ولا نرى فاسدين، بتحصين مؤسسات الرقابة والقضاء، لفتح الباب أمام الإعلام والمواطنين لتقديم ما عندهم من وقائع واتهامات في ملفات الفساد، ورفع الغطاء عن الجميع بلا استثناء ليتسنى لهذه المؤسسات إجراء تحقيقاتها وإصدار تقاريرها بالبراءة أو بالإدانة، واعتماد الدولة بلا تحفّظ كل التوصيات والأحكام التي تصدر بكل ملف، ونشر حاصل هذه التحقيقات في تقارير دورية تخرج للرأي العام، من دون أن ينال الأبرياء التشهير، أو يحمي التكتم الفاسدين.

تشكل التلزيمات محوراً رئيسياً في الإنفاق العام، وقد شكلت الإستثناءات التي تحوزها الوزارات والمؤسسات العامة والمجالس العديدة وفي طليعتها مجلس الإنماء والإعمار ومجلس الجنوب وسواهما، وهيئة الإغاثة والمصالح المستقلة، بمبرر العجلة وتجاوز الروتين، واحداً من أوجه تسلل الفساد من بوابة الإستنساب، ويتوقف النجاح هنا على توحيد مرجعية التلزيم في الدولة عبر المناقصات الشفافة، بعد تعديل نظام المناقصات وتعزيز إدارتها وتحصينها بما يتيح التنافس والشفافية، ويقطع طريق التلزيم من الوزارة والإدارة والمؤسسة من وراء ظهر هذه المرجعية، أو اعتماد التلزيم بالتراضي، رغم العائد السلبي المترتب على الروتين والتعقيد الذي يستهلك المزيد من الوقت، فالأولوية اليوم هي امتلاك صدقية صارت شرطاً لاجتذاب الشركات الأشد كفاءة في الداخل والخارج للتقدم نحو المشاريع المطروحة، وهذا بات مستحيلاً بلا الثقة المسبقة بالجهة التي تضع دفاتر الشروط وتنظر بالعروض ووحدة مرجعيتها والأنظمة التي تعتمدها.

يشكل التوظيف في الدولة ومؤسساتها باباً رئيسياً لبناء الإدارة، ومصدراً رئيسياً لعيش قرابة نصف اللبنانيين، حيث ما يسمى الواسطة صار موضع تندّر بين اللبنانيين ومصدراً لفقدان الثقة بأن للكفاءة مكاناً في البلد، وقد استنزفت الدولة ومواردها وهيبتها وشبابها الموهوبين، وقدرتها على القيام بواجباتها تجاه المواطنين، بتعيينات وتعاقدات وحشو توظيفي يتورّم عاماً بعد عام، حتى صار مطلوباً الحسم في ربط كل تعيين أو تعاقد مع الدولة ومؤسساتها بمباراة، والتذرع بالتعارض بين المباراة والتوزيع الطائفي، أو الحفاظ على التوازن الطائفي، يسقطه اعتماد المباريات المحصورة بين المرشحين لكل وظيفة، وحيث يجب إخضاع الترشيح للإعتبارات الطائفية تكون المباراة المحصورة بين هؤلاء المرشحين أو توزيع المباراة على مباريات متزامنة لفئات المرشحين، وهذا يشكل مدخلاً للتعيين في وظائف الفئة الأولى التي يخضع توزيعها للإعتبار الطائفي وفق الدستور، ويمكن فتح باب الترشيح إليها على اساس الطائفة المعنية بكل وظيفة، واعتماد ما يسمى المحاكاة بدلاً من المباراة، اي إجراء المقابلات مع المرشحين بعد النظر في ملفاتهم، وترشيح الأوائل منهم لمجلس الوزراء ليختار من لائحة لا تتعدى الثلاثة أسماء مَن يشغل الوظيفة، وهذا سينتج وحده إدارة ولاؤها للدولة وليس للزعيم الذي شكّل جسر العبور إليها، لكنه سيمنح القادة السياسيين فرص الإطمئنان إلى أن الخدمات التي يريدونها للشرائح التي يمثلونها ستؤدَّى على أتم وجه، ولن تنفجر بوجههم أزمات كالكهرباء والنفايات والكسارات وسواها، بعدما بات تفاقم الأزمات سبباً للخسارة لا يعوضه الربح الوهمي للولاء الفئوي الذي يحظون به في الإدارة.

المعاملات مع الدوائر الحكومية هي خط التماس الرابع بين الدولة والفساد، حيث الشكاوى من سيطرة نظام الرشى للعبور بكل معاملة، وهنا يجب البدء بالدوائر الأكثر اتصالاً بقضايا الناس وموارد الدولة وشكاوى الرشى، كالدوائر العقارية، والضرائب المالية، والجمارك وما يعادلها في الأهمية، في إطلاق مكننة شاملة تتيح بنظام معلوماتي وبرمجي متطور احتساب الرسوم وجعلها غير قابلة للتعديل أو للتلاعب، ليتسنى إنجاز المعاملات حصراً عبر نوافذ الشبكات المعلوماتية التي يجب توافرها للمواطنين مباشرة عبر موقع موحد مخصص لهذه المهمة يتسع كل فترة لاستيعاب معاملات جديدة، وتكون نوافذ هذا الموقع متاحة أيضا لدى المصارف وكتّاب العدل، والبلديات، لإنجاز المعاملات للمواطنين الذين لا يملكون أدوات النفاذ المباشر، ودائما دون وقوع اي اتصال شخصي بين صاحب المعاملة والموظفين المعنيين.

يجمع اللبنانيون، والسياسيون منهم، على الحاجة الى عمل جدي في مكافحة الفساد، لكن القضية تبقى بتحويل هذا الإجماع إلى سعي عملي، بدلاً من زرع اليأس عبر الطريق الشعبوي أو الطريق التعجيزي.

الدكتور فريد البستاني  26 تشرين الأول 2018 
نائب الشوف