لن نسلّم لبنان للبربرية.. لن نترك بيروت للهمجية

مقالات
28 كانون الأول 2013

يوسف بزي 

قتلوا محمد شطح، في وسط بيروت، على مبعدة مئات الأمتار من المكان الذي قتلوا فيه الرئيس رفيق الحريري. الجادة التي يفترض أن تكون واحدة من أجمل وأزهى الواجهات البحرية على شواطئ المتوسط، باتت طريقاً جهنمية، طريقاً للرعب والموت. قتل بيروت مستمر. تفجير الحياة وتدمير البلد على رؤوسنا (وفق الوعيد الذي أطلقه بشار الأسد)، وشطب السياسة برمتها، وتقويض النظام والسلم الأهلي، هو دأب هؤلاء القتلة.
أغلب الظن أن سمات الرجل هي التي شكلت خطراً عليه، هي سبب الحقد عليه وعلى ما يمثله. رصانته وعقلانيته ومدنيته وثقافته، تهذيبه ودبلوماسيته ووقاره. ذاك يأتي من تحصيل علم وسيرة حسنة وأخلاق سياسية حديثة، ومن جنوح نحو قيم الإعتدال والإنفتاح والتسامح والرقي والتحضّر. هذا ما لا يطيقه كارهو الحياة نفسها، كارهو المدنية، كارهو العمران.. بل هم كارهو أنفسهم. لم يطيقوا محمد شطح كمثال لرجل الخدمة العامة والإدارة والتدبير. لم يطيقوا من هم مثل محمد شطح، يطمحون إلى بلد "طبيعي" وإلى دولة مستقرة وإلى وطن مستقل وإلى مجتمع متصالح مع محيطه ومع العالم ومع العصر. لم يطيقوا تلك المُثل اللبنانية التي تشربها وآمن بها محمد شطح وعبر عنها عملاً وقولاً، وهي تلك القناعة العميقة بالتلاقي الصادق بين الطوائف والجماعات والإحتفاء بتنوعها، والعيش سوية تلك التجربة التي ابتدعت "الصيغة"، وصنعت "الميثاق"، وحققت لبنان النموذج والرسالة.
لم يقبل القتلة بأن يسود منطق السلم والإعتدال، أن تستقيم "الجمهورية" على الديموقراطية والحرية، أن ينتصر مبدأ "لبنان أولاً"، أن نتحرر من الوصاية كما من الإحتلال، كما من الميليشيات. لم يقبلوا أن ينأى هذا البلد الصغير عن شرور التسلط والإستبداد والهيمنة، وعن شياطين "المخابرات"، وصنّاع الفتن. لم يطيقوا فكرة أن السياسة يمكنها أن تكون خيراً وليست حرباً أبدية، عبثية، لا تعرف سوى تربية الحقد والكراهية واليأس. لم يحتملوا من هم مثل محمد شطح، الذي يقول بما معناه "لا، ليس قدراً أن تتقاتل الجماعات إلى يوم القيامة.. بل قدرنا أن نحيا في دولة ناجحة يعيش فيها الناس بوئام، دولة القانون والحقوق والمساواة والعدل". لم يقبلوا يوماً من يبشر بالسلم فيما هم يشعلون الحروب، من يلتجئ دوماً للكلمة والعقل، فيما هم لا يلتجئون سوى للسلاح والغريزة. لم ولن يقبلوا من يحمل حبراً وقلماً وورقاً فيما هم يحملون العبوات المفخخة والرشاشات والصواريخ وكواتم الصوت.
قتلوا محمد شطح، ولا شك عندنا بإسم القاتل، ولا شك لدينا بالهدف. لا نتردد بالقول إن الذين قرروا في خريف 2004 البدء بتصفية السياسيين والمثقفين والصحافيين والأمنيين اللبنانيين هم الذين قتلوا محمد شطح، منذ محاولة اغتيال النائب مروان حمادة، والتي تلاها زلزال اغتيال الرئيس رفيق الحريري وباسل فليحان، ليستمر مسلسلهم الدموي حاصداً جبران تويني، أنطوان غانم، وليد عيدو، بيار الجميل، جورج حاوي، سمير قصير، فرنسوا الحاج، وسام عيد، وسام الحسن.. عدا الذين نجوا بأعجوبة، مي شدياق، الياس المر، سمير شحادة. هم أنفسهم الذين حاولوا اغتيال سمير جعجع، ويلاحقون وليد جنبلاط ويهددون سعد الحريري، ويتوعدون رئيس الجمهورية، وقضاة المحكمة الدولية، ويلوحون بالحرب الأهلية و"سبعات أيار" لا تعد ولا تحصى، وبقمصان سود تنشر الإرهاب والترهيب على اللبنانيين جميعهم. هم أنفسهم أصحاب شعار "قطع اليد" و"قطع الرؤوس". هم أنفسهم - ولا شك لدينا الذين احتلوا بيروت، ويحتلون الوزارات الآن، ويدوسون على الدستور، ويمنعون الانتخابات وتشكيل الحكومات، وتعطيل التحقيق وتضليله في كل جريمة، ويخترقون الأجهزة الأمنية ويضعون اليد على المؤسسات وعلى الإدارات، ويتسلطون، ويعيثون فساداً ويأساً في البلاد، ويلوحون بأسلحتهم عند كل اعتراض يهمس به الناس.
كرهوا في محمد شطح وفيما يمثله تفوقه عليهم، طالما أنه يروّج للحياة، للتفاؤل، للمصالحة، وهم يروجون للقنوط والموت والجنازات والبكاء اليومي والفناء المتبادل. إنهم ينصبون الحقد والجريمة حقيقة وحيدة، سيرة يومية، مصيراً محتوماً.
هؤلاء هم قتلة محمد شطح، الذين قتلوا الفلسطينيين باسم القضية، وقتلوا العراقيين باسم المقاومة، وقتلوا اللبنانيين، ويقتلون السوريين باسم القضية والمقاومة والممانعة. دولة الشر، وحزب الشر وأجهزة الشر، الذين لم يتورعوا عن نسف أسواق بغداد، وسحق المخيمات الفلسطينية، وتدمير حماة وحلب وحمص وطرابلس، وقتل الناس بالأسلحة الكيماوية في دمشق، وقصف الشعب السوري بالبراميل المتفجرة، هؤلاء الذين صدّروا السيارات المفخخة إلى كل أنحاء العالم، وخطفوا وعذبوا ودبروا الإغتيالات التي لا تعد ولا تحصى منذ عقود. قتلوا رؤساء وقادة ومثقفين وناشطين، أبادوا قرى وارتكبوا المجازر. أسياد الإرهاب والتكفير والتخوين ليست جريمتهم بقتل محمد شطح اليوم، وقتل رفيق الحريري أمس. جريمتهم أنهم نصبوا الموت والرعب في هذا المشرق العربي منذ نصف قرن. جريمتهم أنهم لا يطيقون لون الحياة ولا طعمها ولا أملها.
منذ تسع سنوات، يطلبون منا أمراً واحداً مقابل وقف قتلنا: سلّموا لبنان لوصاية ديكتاتور دمشق، للطاغية، سلموا لبنان لميليشيا السلاح، سلموا أنفسكم للخضوع والذل والبؤس، سلموا لبنان لكذبة الممانعة وفوضاها وشرها وفسادها ومروقها وتفاهتها.
منذ تسع سنوات ليس بيدنا سوى كلمة "لا". لن نسلم لبنان للبربرية. لن نترك بيروت للهمجية.