لقاء سيدة الجبل الخلوة الثانية عشرة

وثائق سيدة الجبل
28 شباط 2016

نداء من أجل استعادة

      دور المسيحيين التاريخي        

يعيش لبنان تحت سيف التهديد باندلاع حربٍ أهلية جديدة، يتقابل فيها هذه المرة مسلمون سنّة ومسلمون شيعة، ليس في لبنان وحسب، وإنما على امتداد المنطقة العربية. هذه الحرب، إن۫ وقعت، ستعني نهاية لبنان، وطناً ودولةً ونموذجاً للعيش المشترك.

من مسؤولياتنا الكبرى كمسيحيين أن لا نوفّر جهداً لمنع هذا السقوط إلى الجحيم، وللمساهمة الفعّالة في بناء سلام لبنان.

لماذا نحن مدعوون اليوم كمسيحيين للنهوض بهذا الواجب، ولخوض معركته التي سيكون لنتيجتها تأثيرٌ حاسم على مستقبل لبنان؟

لأن الحرب التي تطلُّ برأسها إنما تعنينا بمقدار ما تعني المسلمين أنفسهم. "فنحن – كما أشار بطاركة الشرق الكاثوليك – نشكّل جزءاً عضوياً من الهوية الثقافية لمسلمي الشرق، مثلما يشكل مسلمو الشرق جزءاً عضوياً من الهوية الثقافية للمسيحيين". وعليه "فنحن مسؤولون عن بعضنا بعضاً أمام الله وأمام التاريخ".

هل نستطيع خوض هذه المعركة؟ نعم !.. وبالتأكيد.

نستطيع خوض هذه المعركة لأننا لعبنا تاريخياً دوراً طليعياً في إعلاء فكرة العيش المشترك؛ وذلك بمساهمتنا الفعّالة، منذ القرن التاسع عشر، في حركة "النهضة العربية"، ثم برفضنا عام 1920 فكرة "الوطن المسيحي"، وأخيراً برفضنا عام 1943 استمرار الانتداب الفرنسي وإصرارنا على الاستقلال الناجز.

نستطيع خوض هذه المعركة لأننا كنّا في طليعة المبادرين، غداة حرب 1975-1990، إلى العمل لاستعادة العيش اللبناني المشترك، الاسلامي – المسيحي؛ وذلك بإقدامنا على المراجعة و"تنقية الذاكرة" وفقاً لتعاليم الإرشاد الرسولي (1997).

نستطيع خوض هذه المعركة لأننا كنا، مع نداء المطارنة الموارنة (أيلول 2000)، أول المبادرين في العالم العربي لخوض معركة الحرية في وجه أنظمة الاستبداد، ممهّدين بذلك الطريق نحو ثورة الأرز (2005) التي شكّلت أولى تباشير "الربيع العربي" (2011...).

نستطيع خوض هذه المعركة لأننا كنا، مع "المجمع البطريركي الماروني" (2006)، أوّل الداعين في هذا العالم العربي إلى إقامة "الدولة المدنية" لإرساء دعائم العيش المشترك على شروط الدولة الجامعة وليس على شروط جماعة طائفية.

هذا الدور التاريخي المشهود يتعرّض اليوم للطعن في جدارته ومصداقيته، بفعل قوى اختزلت السياسة في مجرّد الصراع على السلطة، الأمر الذي دفع البعض الى الانحياز إلى المحور السوري- الايراني، بعدما خاضوا معركة الاستقلال ضد هذا المحور، والى دعم ديكتاتورية النظام السوري بذريعة "حماية الأقليات"، وصولاً الى تعطيل انتخاب رئيس جديد للجمهورية – كل ذلك يُبيّن فداحة الانكفاء الذي أصابنا منذ العام 2005.

لوضع حدٍّ لهذا الانحدار وما يشكّله من تهديد لمستقبلنا في لبنان والمنطقة، علينا العودة إلى رسالتنا التاريخية التي صنعت خصوصيتنا في هذه المنطقة من العالم.

فلقد ناضلنا وما زلنا، منذ نحو قرن، دفاعاً عن فكرة العيش معاً، مسيحيين ومسلمين، متساوين في حقوقنا والواجبات، ومتنوّعين في انتماءاتنا الدينية.

ولقد نجحنا في خلق نموذج لبناني للعيش المشترك، هو اليوم محطّ أنظار العقول الرشيدة والإرادات الطيبة في العالم، بلحاظ موجة العنف التي تجتاح منطقتنا والآخذةِ في التمدُّد نحو أوروبا. نجحنا بفضل استثنائية تجربتنا التي أتاحت لبلدنا أن يكون الوحيد في العالم حيث يتشارك مسيحيون ومسلمون – بصفتيهم هاتين – في إدارة دولة واحدة، وأن يكون الوحيد في العالم الإسلامي حيث يتشارك سنّةٌ وشيعة – بصفتيهم هاتين – في إدارة دولة واحدة.

على قاعدة ما تقدّم، فإننا نُهيب بالمسيحيين اللبنانيين أن ينهضوا بمسؤولياتهم، وذلك من خلال:

أولاً- العودة إلى جوهر الرسالة الانجيلية التي تعلّم الناس كيف يعيشون معاً بسلام، وتنهاهم عن استخدام الدين لاصطناع هويات مغلقة سرعان ما تتحول – كما بيَّنت تجربة الحرب- إلى "هويات قاتلة".

ثانياً- العمل على تجاوز الحدود الطائفية المرسومة لتوحيد الجهود بين المعتدلين في كل الطوائف بمواجهة المتطرفين في كل الطوائف وخلق شبكة آمان تحمي لبنان من تداعيات الصراعات الجارية في المنطقة.

ثالثاً- توثيق علاقات المودَّة والتفاهم والتناصُر مع مسيحيي العالم العربي، والتواصل مع المسلمين الذين يناهضون التطرُّف واللاتسامح، لنفكّر معاً وجميعاً في ما من شأنه أن يؤسس لقيام مشرق عربي جديد، "مشرق العيش معاً"، حيث التنوع الديني والإثني الفذّ بشكّل مصدر غنىً لكلٍ منّا ولجميعنا.

رابعاً- التواصل مع قوى الاعتدال في أوروبا، التي تناهض الاسلاموفوبيا وكل أشكال التمييز ضد الآخر المختلف؛ والعمل معها على اشتقاق رؤية جديدة إلى حوض المتوسط، بحيث يغدو "متوسط العيش معاً"، بعد أن تحول هذا البحر التواصلي بامتياز في تاريخه العريق، الى "بحر التصدّعات"، تحفُّ به صراعات كبرى حمّالةُ شقاقات دينية وتصقيات عرقية وقومية لم يعد أحدٌ في منأى عنها.